التسامح .. ثقافة متجذرة في المجتمع العماني

مسقط - عرُف العمانيون منذ القدم بأنهم مجتمع متسامح، فعمان من أوائل البلدان التي اعتنقت الإسلام طواعية بدون حرب ولا قتال، حيث قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما جاءه وفد عمُان مبايعاً له: «يا معشر أهل عمُان إنكم أسلمتم طوعاً لم يطأ رسول الله ساحتكم بخف ولا حافر ولا عصيتموه كما عصاه غيركم من العرب.
ولم ترموا بفرقة ولا تشتت شمل فجمع الله على الخير شملكم، ثم بعث فيكم عمرو بن العاص بلا جيش ولا سلاح فأجبتموه إذ دعاكم على بعد داركم، وأطعتموه إذا أمركم على كثرة عددكم وعدتكم، فأي فضل أبر من فضلكم وأي فعل أشرف من فعلكم، كفاكم قوله عليه الصلاة والسلام شرفاً إلى يوم الميعاد».
وروى أبو لبيد أنه خرج رجل يقال له يبرح بن أسد فرآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: من أين أنت؟ قال: من أهل عمُان. فأدخله على أبي بكر فقال: هذا من أهل الأرض التي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأعلم أرضاً يقال لها عمُان ينضح البحر بجانبها، لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر». كما أن التاريخ العماني يحمل لنا أمثلة وشواهد عديدة على التسامح والمساواة والعدل، ولنا في الإمام ناصر بن مرشد اليعربي قدوة حسنة في التسامح، ففي الاتفاقية التي عقدها الإمام ناصر مع ممثل الإنكليز فليب وايلر عام 1642 م حول تنظيم التجارة بين عمُان وشركة الهند الشرقية الإنكليزية أذن الإمام لهم بممارسة طقوس ديانتهم المسيحية في عمُان.
ومع إشراقة النهضة المباركة في عام 1970 م بقيادة السلطان قابوس بن سعيد عملت سلطنة عمُان بدون هوادة على إرساء قواعد العدل والمساواة بين المواطنين كافة، فرسخت مبادئ التسامحُ والإخاء والتكافل المتجذرة في ثقافة المجتمع العماني، ودعمت ذلك بسلسلة من القوانين والإجراءات لإقرار الحقوق الأساسية للجميع بدون تمييز.
فلقد أرسى دعائم تربية التسامح للشعب في السلطنة، إذ تجلت في العديد من خطبه وكلماته التي دعا من خلالها الإنسان العماني إلى الالتزام بروح التسامحُ والألفة والمحبة، وإن عدم التسامح في المجتمع هو في الحقيقة بعيد كل البعد عن الفكر الإسلامي، فقد قال:«إن التزمت في الفهم الديني لا يؤدي إلا إلى تخلف المسلمين، وشيوع العنف وعدم التسامح في مجتمعاتهم، وهو في حقيقة الأمر بعيد عن فكر الإسلام الذي يرفض الغلو، وينهى عن التشدد، لأنه دين يسر، ويحب اليسر في كل الأمور».
إن السماحة والتسامح التي ابتدأ بها السلطان واستمر عليها في ترتيب شؤون الدولة العمانية الحديثة قد أثمرت وأينعت ودان قطافها، حتى استلفتت العديد من المراقبين والمؤرخين العالميين. ولعل حفل تدشين كتاب «التسامح» في العاصمة الروسية حول تجربة السلطنة خير دليل على المكانة العالية التي تتوسدها السياسة الحكيمة للقيادة العمانية.
حيث من الملاحظ أن هذا المفهوم يضع الإنسانية قبل القانون، ويقدم قيمة الإنسان على قيمة المادة مهما عظمت. حتى أن مفهوم التوفيق والمصالحة قد صار قيمة أساسية من قيم ميزان العدل والقانون في البلاد، بل هو مفهوم قد صار قانونا معمولا به من خلال اختصاصات لجنة أو بالأحرى لجان التقريب والتوفيق والمصالحة بين المتقاضين أو المتنازعين. وهو مفهوم انسحب بالتالي على آلية التفاوض في مختلف القضايا الإقليمية والدولية من خلال الخطاب السياسي والأداء الدبلوماسي العماني الذي أحرز منجزات ظاهرة وباطنة عادت على عمان بالسلام والوئام والتصالح وتسوية كل القضايا العالقة بدءاً بقضايا الحدود ومروراً بقضايا العلاقات الإقليمية والدولية.
من أقوال السلطان قابوس
*إن التزمّت في الفهم الديني لا يؤدي إلا إلى تخلف المسلمين، وشيوع العنف وعدم التسامح في مجتمعاتهم، وهو في حقيقة الأمر بعيد عن فكر الإسلام الذي يرفض الغلو، وينهى عن التشدد، لأنه دين يسر، ويحب اليسر في كل الأمور.
*أصبحت بلادنا ملء السمع والبصر، وحضن وحصن المواطن العماني وكل من يعيش فيها أو يزورها.
ولأن برامج التنمية لا بد لها من مناخ الأمن والأمان كي تستمر عجلاتها في الدوران، جاءت أهمية شبكة العلاقات بين السلطنة وكافة الأصدقاء والأشقاء في ظل عصر يأخذ بمفاهيم العولمة والانفتاح بين كل الشعوب وانسياب التجارة العالمية وتشابك المصالح.
إن لغة الأرقام تفرض نفسها بشدة على الحياة المعاصرة، وما يتبعها من نسب مئوية في معدلات النمو والناتج المحلي الإجمالي ودخل الفرد ومعدلات النهوض بقطاعي الإنتاج والخدمات، والمشاركة في العمل العام ونسبة مشاركة المرأة إلى غير ذلك من أرقام، وكلها شهدت في العام الأخير زيادة ملحوظة، لكن تظل قيم العائلة الكبيرة هي التي تسود حركة المجتمع العماني بما تحمل من تسامح وحرص على الأصالة والقيم الموروثة في ثنايا الدين والعرف والتراث جنبا إلى جنب مع المعاصرة والتلاقي مع العالم المحيط بنا عند نقاط التقاء تتعاظم مع الزمن. ولم تقتصر الإنجازات العمانية على المستوى الداخلي بل امتدت إلى السياسة الخارجية في بناء جسور التعاون على المستوى الإقليمي والمستوى العالمي فقد أصبحت السلطنة تتبوأ مكانة مرموقة يحتذى بها في نشر السلام والأمن الإقليمي والعالمي. لقد أكد السلطان قابوس على قيمة ومدى ما تحقق عندما قال: «لقد بدأت النهضة العمانية من الصفر، والآن هي أرقام نفخر بها ويفخر بها شعبنا الذي تعاون معنا حتى أصبحت بلادنا ملء السمع والبصر، وحضن وحصن المواطن العماني وكل من يعيش فيها أو يزورها».
وانطلاقا من حب غير محدود لعمان، الوطن والمواطن، حدد قابوس إحدى أهم ركائز ومحاور التنمية الوطنية بالتأكيد على أن «الاهتمام بالموارد البشرية وتوفير مختلف الوسائل لتطوير أدائها وتحفيز طاقاتها وإمكاناتها وتنويع قدراتها الإبداعية، وتحسين كفاءاتها العلمية والعملية هو أساس التنمية الحقيقية، وحجر الزاوية في بنائها المتين القائم على قواعد راسخة ثابتة، إذ أن العنصر البشري هو صانع الحضارات وباني النهضات. لذا فإننا لا نألو جهدا ولن نألو جهدا في توفير كل ما من شأنه تنمية مواردنا البشرية وصقلها وتدريبها وتهيئة فرص العلم لها بما يمكنها من التوجه إلى كسب المعرفة المفيدة والخبرة المطلوبة والمهارات الفنية اللازمة التي يتطلبها سوق العمل وتحتاج إليها برامج التنمية المستدامة في ميادينها المتنوعة».
وفي إطار هذه الرؤية الشاملة التي وضعت المواطن العماني في بؤرة الاهتمام، ومنحته الثقة وعلقت عليه الآمال كشريك فعال في صياغة وتوجيه التنمية الوطنية، تم حشد كل الطاقات البشرية والمادية من أجل تحقيق خطط التنمية المتتابعة التي حرصت على الأخذ بأفضل ما يتوصل إليه المنظور الإنساني من تقدم في مختلف الميادين، طالما أنه يتوافق ويحقق النفع للوطن والمواطن ، ومع الحفاظ في الوقت ذاته على الهوية العمانية، وعلى التقاليد والسمات المميزة للشخصية العمانية وهو بما نجحت فيه مسيرة النهضة العمانية المعاصرة على نحو بارز وملموس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق